تهدف إسرائيل من العدوان وفق ما تعلنُه إلى العودة إلى معادلة "هدوء مقابل هدوء"، أما في الحقيقة فإن حكومة نتنياهو تريد من عدوانها أن يحقق ضربة قاصمة للبنية التحتيّة للمقاومة، وكسر إرادة المقاومة، من خلال تضمين أي اتفاق نزع السلاح.
بالرغم من حملة الإبادة المستمرة طوال الأيام الثمانية الماضية لا تزال المقاومة صامدة وتطلق صواريخها التي تصل يوميًا إلى مختلف أنحاء إسرائيل، وترفض القبول بمعادلة "تهدئة مقابل تهدئة"، وتطالب بأن يشمل أي اتفاق جديد وقف العدوان ورفع الحصار، وإطلاق سراح الأسرى الذين اعتقلوا منذ وقوع "عمليّة الخليل" وحتى الآن، ومن ضمنهم الأسرى المحررون في صفقة شاليط.
هناك خلاف فلسطيني حول جدوى المقاومة المسلحة وإطلاق الصواريخ على إسرائيل والهدف منها في ظل الاختلال في ميزان القوى، وعبّر هذا الخلاف عن نفسه من خلال وصف الصواريخ من الرئيس سابقًا بالعبثيّة، وبأنها عديمة الجدوى أثناء العدوان، حيث طالب بعدم وضع أي شروط والاكتفاء بالعودة إلى التهدئة السابقة بصورة يظهر فيها الموقف الرسمي الفلسطيني يتقاطع في بعض النقاط مع الموقف الإسرائيلي.
إن هذا الخلاف الناجم عن استمرار الانقسام بالرغم من تشكيل حكومة الوفاق يربك الموقف الفلسطيني ويضعف من إمكانيّة الانتصار الذي وحده يجعل إسرائيل تفكر أكثر من مرة قبل الإقدام على تنفيذ عدوان جديد.
للتعرف إلى الموقف المناسب لا بد من تذكر أن الضفة التي لا تملك أو تطلق صواريخ والسلطة القائمة فيها تنسق أمنيًا مع الاحتلال لم تتمكن من حماية شعبها عن هذا الطريق، حيث ارتقى منذ بداية العام 2013 وحتى الآن حوالي 100 شهيد، نصفهم قبل عمليّة الخليل، وقسم كبير منهم قتلوا إبان المفاوضات مع إسرائيل التي جرت لمدة تسعة أشهر، فضلًا عن التوسع الرهيب في الاستيطان وتهويد القدس وأسرلتها، وتكثيف الاعتداءات على المقدسات، وإقرار قوانين التمييز العنصري، وحملات لا تنتهي من الاعتقالات.
كما ينبغي أن نتذكر أيضًا أن هذا العدوان هو الثالث على قطاع غزة خلال خمسة أعوام، فإسرائيل تبادر بين فترة وأخرى بشن حرب واسعة ضد القطاع لمنع وصول قدرات المقاومة إلى مرحلة تستطيع فيها تهديد إسرائيل جديًا من خلال إيجاد نوع من توازن الردع، وتعميق الانفصال بين الضفة وغزة، ومنع قيام دولة فلسطينيّة. فالشعب الفلسطيني يدافع عن نفسه وهو حق طبيعي تقرّه الشرائع الدينيّة والدنيويّة، بينما "تدافع" إسرائيل عن احتلالها واستيطانها وعنصريتها ومشروعها الاستعماري.
وأيضًا تهدف إلى تدريب قواتها وتجريب الأسلحة الجديدة وإظهار العدو الفلسطيني كخطر دائم؛ حتى تضمن المؤسسة السياسيّة استمرار دعم الرأي العام الإسرائيلي لها، ورفض أي حلول عادلة أو متوازنة أو تحقق أي حد من الحقوق الفلسطينيّة.
كما لا بد أن نتذكر أن قوات الاحتلال هي التي بدأت العدوان، بدليل أنها استهدفت وقتلت مجموعة من كتائب القسام، إذ تصورت أن هذا التوقيت مناسب، بل مثالي، لتنفيذ عدوان جديد في ظل تردي علاقات "حماس" على المستويين العربي والإقليمي، بما يتيح نوعًا من الضوء الأخضر الرسمي العربي، وما يقلل من احتمالات التضامن الشعبي العربي والدولي مع الشعب الفلسطيني بذريعة واهية أن الطرف الذي يقود غزة ويلعب الدور الأبرز في المقاومة هو "حماس"، التي تعتبر امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين الذين يوجد ضدهم تحالف عربي رسمي، وتقود الحرب لمصالحها الخاصة.
من الخطورة بمكان تصوير الحرب الدائرة كاستمرار للحرب ضد جماعة الإخوان المسلمين، لأنها حرب تستهدف جميع الفلسطينيين، فما يجري ضد غزة لا ينفصل عن العدوان المستمر في الضفة وضد الفلسطينيين داخل إسرائيل، الذي يأخذ أشكالًا مختلفة لكن الأهداف منه واحدة، وتتمحور حول كسر إرادة الفلسطينيين على المقاومة، ودفعهم لقبول أو عدم القدرة على منع تمرير الحل الإسرائيلي التصفوي للقضيّة الفلسطينيّة.
فك الحصار وإطلاق سراح الأسرى ووقف العدوان شروط ضروريّة ما دامت المواجهة مستمرة في الضفة وداخل 48، والمقاومة صامدة في غزة، والتضامن العربي والدولي معها يتزايد مع اتضاح مدى بربريّة العدوان الإسرائيلي واستهدافه للبشر والحجر.
لو كانت الصواريخ لم تلحق أضرارًا ولم توقع خسائرَ، فلماذا هذا التعتيم، ولماذا يهرع الإسرائيليون إلى الملاجئ في كل مرة يتم فيها إطلاق صفارات الإنذار؟
إن الصواريخ في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى وفقدان العمق الإستراتيجي العربي والإقليمي والدولي، وفي ظل الوضع العربي الحالي الذي أقل ما يقال فيه إنه لا يسرّ صديقًا ويسعد كل الأعداء؛ لا تنفع لكي تكون الإستراتيجيّة المناسبة للتحرير، ولكنها تعتبر إستراتيجيّة مناسبة للدفاع، ولتأكيد وحدة القضيّة والشعب والأرض بشكل عام، ووحدة الأراضي المحتلة العام 1967 بشكل خاص. فلنتصور الوضع لو لم يكن هناك صواريخ تملكها المقاومة لاستباحت إسرائيل القطاع بشكل كامل، وعمقت بشكل لا رجعة عنه انفصال الضفة عن غزة.
تبقى عدة نقاط لا بد من الوقوف عندها، وهي أن إسرائيل لا تريد القضاء على حكم "حماس" كليًا، بل إبقاءه ضعيفًا وعلى حافة الهاوية تمامًا مثل السلطة في الضفة، وذلك لإبقاء السلطتين تحت رحمة إسرائيل، وحتى لا تقويان على رفض الشروط والإملاءات الإسرائيليّة، ولأن إسقاط حكم "حماس" مكلف لإسرائيل وسيستغرق فترة طويلة، بما قد يؤدي إلى تداعيات فلسطينيّة وعربيّة وإقليميّة دوليّة كبيرة، وهذا يفسر كل هذا النقاش والخلاف بين الإسرائيليين، وخصوصًا العسكريين والسياسيين حول مدى وجدوى وأهداف الحرب البريّة، كما أن سقوط حكم "حماس" يمكن أن ينهي حالة الانقسام التي تحقق فوائد هائلة لإسرائيل التي تريد أن تحولها إلى انفصال دائم.
نقطة أخرى، وهي أن منع السلطة المواجهات في مناطقها بحجة حماية الشعب يحدّ من الفرص الكفيلة بوقف العدوان وتحقيق شروط المقاومة. فإسرائيل ستوقف عدوانها كلّما رأت أنه يمكن أن يساعد على تسريع احتمالات اندلاع انتفاضة أو إلى انهيار السلطة، التي من المهم استمرارها لكي تتحمل الأعباء عن الاحتلال، أو أن يؤدي إلى تغير موقف القيادة من العدوان، بحيث يرتقي إلى مستوى التحديات وما يريده الشعب، الذي يطالب بنصرة غزة بأقصى شكل ممكن، من خلال وقف التنسيق الأمني وتمكين الشعب في الضفة من المواجهة مع الاحتلال، وتوفير متطلبات الدفاع عن النفس من اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال، وذلك لتخفيف الضغط عن غزة والشروع فورًا في عمليّة الانضمام لمحكمة الجنايات الدوليّة.
من الثغرات التي تهدد بالهزيمة وإضاعة ما حققه الصمود والمقاومة التنافس لتوظيف المعركة لمصالح فئويّة، سواء من خلال سعي القيادة إلى الاستئثار بالوساطة واستئناف المفاوضات الثنائيّة بعيدًا عن قوى المقاومة، أو من خلال سعي "حماس" إلى تغليب مصالحها وتعزيز دورها والخروج من أزمتها على حساب وحدة الموقف والمصلحة الفلسطينيّة العامة، أو من خلال اللعب بالوساطة والوسطاء.
إن تجاوز هذه الثغرة يكون من خلال عقد اجتماع للإطار القيادي المؤقت للمنظمة فورًا لكي يقود الوضع الفلسطيني، بما في ذلك على صعيد المواجهة السياسيّة والعسكريّة الجارية حاليًّا، من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف العدوان ورفع الحصار بصورة تساعد على التقدم على طريق إنهاء الانقسام، بحيث تكون هناك منظمة وحكومة وأجهزة أمنيّة واحدة ترابط على الحدود والمعابر وتخضع للوطن بعيدًا عن الفصائليّة، وسلطة تجاور المقاومة، ومقاومة ضمن إستراتيجيّة ومرجعيّة وطنيّة مشتركة.
[نشر للمرة الاولى على موقع "مسارات" يعاد نشره بالاتفاق مع الكاتب]